فارق كبير لايدركه معظم الناس, ولاتهتم به اختيارات الالفاظ أو الكلمات بين الراحة والفراغ الراحة اقتطاع واع ومقصود من عناء العمل, لتجديد النشاط, بينما الفراغ خواء وخلو لاقصد فيه ولااستعداد ولاعزم ولا إرادة!
يمكنك ان تقيس جد الاشخاص وجد المجتمعات, بمقدار عنايتها بالراحة, لانها الوجه المقابل للكد والعمل, الراحة من العمل ليست فراغا ولاخواء, وانما هي مساحة واجبة ينبغي ان يكون لها وقت ويجب ان يكون كافيا لتحقق الراحة وان تتحقق فيه فعلا.. وإلا لم يعوض الجهد الذي بذل في العمل ولم يحصل التخلص من السأم الملال الملازمين للاعتياد علي العمل والالتفات إليه وانحصار الهم فيه!
فلا توجد الراحة لمن ليس له عمل.. ذكرا كان أو انثي بل يوجد فقط فراغ أو بطالة خاليان من المداولة بين العمل والراحة, ومن الانفعال ببداية العمل أو النشاط وانتهائه!.. وخاليان ايضا من الشعور بالجدية والأهمية, هذا الشعور الذي يلازم العمل وفكرته واداءه كنشاط اساسي للآدمي منذ أن يفارق الطفولة والصغر ويبدأ اكتتابه في نهر الحياة.
وقد تراجع من زمن تلازم الفراغ مع الثراء, ولم تعد الثروة بذاتها جالبة للخمول والخواء وانعدام النشاط, وصرنا نري نشاطا ملازما للثروة وبعض الاثرياء, ومع ذلك فلا لاتزال توجد اعداد من الناس لاتعمل أو لاتعمل بتاتا أو لاتعمل علي نحو جاد بسبب يسارها.. وقد تعمل ولكن بلا احساس بالالتزام والمسئولية.. وهذه ظاهرة معروفة من قديم, ولكن زادت في عصرنا فخلقت مشكلة الفراغ في قطاعات من المجتمع إلي جانب تراكمات مشكلة البطالة الناجمة عن الكساد او ندرة فرص العمل!
ومعالجة البطالة معروفة وان عزت احيانا امكانات علاجها.. وطريقها الواضح, بغض النظر عن الوسائل, وهو في استيجاد الأعمال والانشطة والرواج وما يترتب عليه من انتاج يعود فيصب في الرواج وتزايد احتياجات وفرص العمل في دائرة أو دوائر تتبادل التأثير في زيادة العمل وتراجع البطالة.
اما معالجة الفراغ فعسيرة, واعسر منها معالجة امراض الفراغ وهي عديدة.. ربما يرجع العسر إلي أن مقاومة الفراغ قد يعاكسها استحالة مقاومة اليسار أو منع وجود الموسرين الذين لايجدون في الثروة إلا سبيلا للاستغناء عن العمل وعنائه ومتاعبه, والارتياح من ثم إلي الفراغ مهما لازمه من خواء الروح والنفس والعقل!
لم تقتصر مصاعب مقاومة اليسار ـ اقصد الغني ـ علي المجتمعات التي تحترم الحرية الفردية وتصون الحريات العامة وتحافظ عليها, وانما رأينا ان مقاومة ذلك عسيرة ايضا حتي في المجتمعات الاستبدادية أو في مجتمعات أوتوقراطية أو شيوعية ماركسية لينينية أو صينية, لان اليسار في هذه المجتمعات مستور.. ولكنه غير منعدم!.. تساعده ادوات السلطة علي الاستتار, ولكنها لم تمنعه أو تعدمه, فظل موجودا ينعم به المتنعمون من الحكام والاثرياء بعيدا عن عيون الناس!... ففي مثل هذه المجتمعات يمارس الموسرون يسارهم في صمت نسبي لاتخوض فيه وسائل الاعلام ما دام من نصيب الحكام والمستويات القريبة منهم!
وقد رأينا حين دالت من دول من أمثال هذه المجتمعات ـ كيف كان بداخلها طبقات تعيش معيشة خاصة أو حياة خاصة تبتعد ابتعادا شاسعا عن معيشة وحياة سواد الناس الكادحين المغمورين في المزارع والمصانع أو المكاتب والثكنات!.. اما الموسرون في تلك المجتمعات, وهم غير قليلين, فلم ينقصهم الترف والتنعم وبهجة التأنق والاقتناء والمتع الاجتماعية وأمثالها من لوازم الحكم والسلطة في تلك المجتمعات التي اتضح ان داخلها كانت اشياء أخري خلاف ظاهرها!
فمشكلة الفراغ والفارغين تتضخم في عصرنا في المجتمعات الحرة وغير الحرة, وهي موجودة في مجتمعات الاقتصاد الموجه, مثلما هي موجودة في مجتمعات السوق الحرة.. مرد ذلك ان اليسار والموسرين في تضخم مستمر مع تزايد وتضخم الثروات.. ومن مفارقات هذا التضخم في اليسار والثروات انه ناتج عن تزايد احتياجات الآدميين باستمرار, واتساع مرافقهم تبعا للوازم المدنية وتزايد آلياتها وتقنياتها وتعدد نواتجها وتضاعف كفايتها حجما ووعدا ونوعا.. وتزايد مبتكرات اختراعاتها وبلايين سلعها وخدماتها مصحوبة برغبات البلايين في الاقتناء أو الاستعمال أو التغيير والتبديل والاضافة والاشتهاء والتطلع!
ظني ان الأمل بعيد جدا في رد الادميين إلي القصد والاعتدال, فقد بات الهوس سمة من سمات العصر, وتقلصت مساحة التعقل والايمان بقيمة العمل المسئول وقيمة الراحة المسئولة المعقولة منه.
ومع هذه وتلك لم يعد احد يلتفت اويلتفت بالقدر الكافي إلي خطورة الفراغ والتهافت عليه وسوء عاقبته في خواء النفس والروح وانعكاس مضاره علي المجتمع بأسره حين يؤدي الفراغ إلي استنفاد الانسانية ذاتها!
وربما وجد المتأمل تشابها ما من بعض الوجوه بين عصرنا بما فيه من ازدحام وسرعة تغير وتبدل وتفكك في العلاقات الانسانية وخلوها من العمق والاخلاص وتعرضها لانقسامات هائلة متزايدة بين فئات الناس ـ وبين الحضارة الرومانية اليونانية في القرنيين الثالث والرابع بعد الميلاد.. وربما تذكرنا كيف عاجلت المقادير واقع ومستقبل تلك الحضارة الرومانية اليونانية ـ بالالغاء والمحو, فتسلطت عليها همجية وقسوة القبائل الجرمانية, وعارضتها بدائيات وحماسة وتقشف العقيدة المسيحية في قرونها الأولي..
فقضت كل منهما ـ باختلاف دوافعها وآلياتها ـ علي معظم تلك الحضارة من علوم وفنون واداب وتراث وامجاد, واحالت ذلك إلي اضاليل شياطين ومزاعم وثنية خبيثة يجب تدميرها وتطهير حياة الانسان منها في كل زمان ومكان, فرجع الانسان بذلك أكثر من الف سنة إلي الخلف, واحتاج إلي الف سنة اخري ليجد طريقه إلي الحضارة مرة أخري, وسلخ بعد ذلك نحو خمسة قرون أخري في تكوين الحضارة المعاصرة!
لم يتصور أهل الحضارة الرومانية اليونانية, في حال تدهورها, انها يمكن ان تبيد, كما لم يتصور المصريون القدماء ان حضارتهم الفرعونية يمكن ان تندثر نهائيا ومعها لغتهم, فلا يبقي من ذلك إلا آثار الابنية والمعابد والأهرامات والتماثيل والمومياوات.. لم يتخيل اهل تلك الحضارات, وهم يعيشونها بعقلياتها واحلامها, انها تتحلل وانه قد اخذ يتخللها استحكام الفساد والتمزق وتسيد الفراغ والفارغين علي كل شيء وعلي جميع المرافق عامة وخاصة!
انتشار الفراغ والفارغين, يطرد الجد والجادين من ميادين الأعمال والأشغال, ويقلص بزحف سلبياته مساحة العمل والعاملين, ويفسح قاصدا وغير قاصد المجال لاليات الجنوح والرشوة والغش والفساد والنهب والسلب والقنص والايذاء.. تتقاسمها وتتنازعها تجمعات وعصابات وزمر دفعها الفراغ والخواء إلي طلب المغانم والتسابق إليها بغير سبلها النظيفة التي تنتظم بها وعليها سبل الحياة ومدارج الارتقاء!
* نقلا عن صحيفة "الأهرام" المصرية